"القسم 230" وغيره من قوانين الإشراف على المحتوى في العالم


مقدّمة

مع نموّ الإنترنت وانتشار الشركات التي تستضيف (وتدير) محتوى المستخدمين/ات في جميع أنحاء العالم، أصبح تتبّع الأطر والسياسات المختلفة التي تطّبقها هذه الشركات على عملية الإشراف على المحتوى أمراً أصعب، وهي أطر وسياسات غالباً ما تختلف من شركةٍ إلى أخرى ومن بلدٍ إلى آخر.

في الولايات المتحدة، غالباً ما يختار الوسطاء - أي منصّات التواصل الاجتماعي وغيرها من المواقع التي تستضيف محتوى من إنشاء المستخدمين/ات - سياسات للتعبير والخطاب تتشكّل جزئياً من القوانين الثلاثة التالية: التعديل الأول لدستور الولايات المتحدة الأميركية؛ والقانون 47 U.S.C "القسم 230" (والذي يُشار إليه باسم "القسم 230")؛ و"قانون الألفية الجديدة لحقوق طبع ونشر المواد الرقمية" (DMCA)

التعديل الأول لدستور الولايات المتحدة و"القسم 230"

في العموم، يحمي التعديل الدستوري الأول حقّ المنصّات في  اختيار استضافة الخطاب أم لا، من دون أيّ تدخّل من الحكومة، مع استثناءات قليلة وضيّقة بشأن بعض أنواع الخطاب غير القانوني، مثل المواد الإباحية المتعلّقة بالأطفال. بعبارةٍ أخرى، لا يمكن للحكومة أن تتدخّل في سياسات المنصّة الأساسية لتنظيم المحتوى.

في الأيام الأولى للإنترنت، يمكن القول إنّ  الوسطاء لربّما واجهوا تهديدات جدّية من قبل أطراف خاصّة كانت تسعى إلى تحميلهم المسؤولية عن المحتوى الذي يمكن أن ينتهك قوانين أخرى، مثل التشهير. وفي هذه الحالة، يمكن أن تؤدّي تكاليف التقاضي إلى خنق الكثير من الخدمات الجديدة قبل أن تبدأ حتّى. ومن المفارقة ربّما أنّ الخدمات التي كانت تقوم بالإشراف على المحتوى الذي يُنشِئه المستخدمون/ات قد تكون  معرّضة للخطر أكثر من تلك التي لم تقم بالإشراف على المحتوى مطلقاً.

أمّا "القسم 230" الذي أقرّ كقانونٍ في العام 1996 فهو يحدّ من هذا الخطر، بحيث يحمي الوسيط إلى حدّ كبير من المسؤولية عن المحتوى الذي ينشئه المسخدمون/ات، ويوفّر حماية إضافية لضمان عدم تحميل الوسيط مسؤولية جديدة بسبب إشرافه على المحتوى.

يضمّ "القسم 230" نظامَين أساسيّين يتعلّقان بالرقابة والإشراف على المحتوى. ينصّ الأول 1(C) على أنّ "أيّ مزوّد خدمة أو مستخدم/ة لخدمة كمبيوتر تفاعلية لا ينبغي التعامل معه كناشر أو متحدّث بأيّ معلومات يقدّمها مزوّد محتوى معلومات آخر". وهذا يعني فعلياً أنّه على الرغم من أنّك مسؤول/ة قانونياً عمّا تقوله/تقولينه على الإنترنت، فإذا كنت تستضيف/ين أو تعيد/ين نشر خطاب أشخاص آخرين سيكون هؤلاء الأشخاص مسؤولين قانونياً عمّا يقولونه على منصّتك. وبالتالي، يَعتبِر "القسم 230" أنّ الجهة المسؤولة عن الخطاب غير القانوني على الإنترنت هو الشخص الذي نطق بهذا الخطاب، وليس الموقع الذي نُشر الخطاب عليه، أو التطبيق الذي استخدمه الشخص لنشر خطابه، أو أيّ طرف ثالث. وينطبق ذلك على المستضيف سواء كان منصّة كبرى مثل "فيسبوك" أو موقعاً إلكترونياً شخصياً أو مدوّنة شخصية.

ومع ذلك، ثمّة بعض القيود التي ينبغي الانتباه إليها، فـ"القسم 230" لا يحمي الوسطاء من المسؤولية بموجب القانون الجنائي الفدرالي من الشكاوى الفيدرالية بخصوص الملكية الفكرية.

باختصار، يتيح "القسم 230" إنشاء المواقع والخدمات التي تستضيف محتوى وخطاباً يُنشِئه المستخدمون/ات ويسمح لهم/ن بمشاركة أفكارهم/ن من دون الحاجة إلى إنشاء مواقع إلكترونية أو خدمات خاصّة بهم/ن من المحتمل أن لا تتمتّع بانتشار كبير. ويُنسَب إلى هذا القانون، منذ إقراره في العام 1996، مساعدته في إنشاء منظومة الإنترنت التي نمتلكها اليوم والتي سمحت للكثير من الناس بالوصول إلى المحتوى الذي يُنشِئه الآخرون. ويُعتبَر هذا القانون كذلك أحد أسباب ازدهار المجتمعات على الإنترنت حيث يمكن للمستخدمين/ات أن يتفاعلوا مع بعضهم البعض ويعلّقوا على محتوى بعضهم البعض، من دون الحاجة إلى انتظار المشرف/ة على المحتوى أو الخوارزمية لساعات وأيام من أجل مراجعة المنشورات.

بالإضافة إلى ذلك، يساعد "القسم 230" في الحدّ من الرقابة المفرطة على المحتوى المثير للجدل أو الذي يُحتمَل أن يكون "مسيئاً" - وهو توصيف يتغيّر بمرور الزمن ويمكن أن يخضع للنزوات السياسية ويختلف باختلاف وجهات النظر. وفي حين تُعتبر الرقابة التي تمارسها المنصّات مشكلة كبيرة، فإنّه من دون "القسم 230" يمكن أن تشعر هذه المنصّات بالضغط لإزالة عدد أكبر من المحادثات المثيرة للجدل خوفاً من المسؤولية غير المباشرة، وهو ما يمكن أن يضرّ بالفئات الأكثر ضعفاً التي غالباً ما تُهمّش أصواتها أكثر من غيرها. ولقد أظهرت الرقابة بالفعل أنّها تعزّز الخلل القائم في المجتمع، عن قصد ومن غير قصد، لتزيد في النهاية من احتمال فرض المنصّات المزيد من الرقابة على أصوات الأفراد المستضعفين والمجتمعات المستضعفة.

بعبارة أوضح، في حال انتهاكك للقانون على الإنترنت، يحمّلك "القسم 230" المسؤولية شخصياً، في حين يرفعها عن الموقع الإلكتروني أو التطبيق أو المنتدى الذي نشرت فيه شيئاً غير قانوني. وكذلك، في حال أعدت توجيه رسالة بريد إلكتروني أو أعدت نشر تغريدة ما، ستكون/ين محمياً بموجب "القسم 230" في حال كان المحتوى غير قانوني. وتذكّر/ي دائماً أنّ مشاركة المحتوى والأفكار التي ينشرها آخرون تُعتبَر إحدى وظائف الإنترنت الرئيسية، بدءاً بـ"خدمات لوحة البيانات (Bulletin Board Services) في الثمانينات، و"وصلة الدردشة عبر الإنترنت" (IRC) في التسعينات، مروراً المنتديات (forums) في العقد الأول من الألفية الجديدة، وصولاً إلى منصّات التواصل الاجتماعي في الوقت الحالي؛ ولا تنسَ/ي أنّ "القسم 230" يحمي كلّ أنواع الخدمات هذه (وغيرها الكثير) التي يقدّمها الوسطاء. فهذا القانون الذي لم يكن موجوداً قبل العام 1996، هو أنشئ في جزءٍ منه ليحمي الخدمات الموجودة وتلك التي ظهرت فيما بعد.

"قانون الألفية الجديدة لحقوق طبع ونشر المواد الرقمية" (DMCA)

ترجع غالبية عمليات إزالة الخطاب على الإنترنت إلى المزاعم بانتهاك حقوق النشر، وذلك باستخدام الإجراءات المنصوص عليها في "قانون الألفية الجديدة لحقوق طبع ونشر المواد الرقمية" (DMCA).

يشتمل هذا القانون على قسمَين رئيسيين، هما قسم "مكافحة التحايل" (الأقسام 1201 وما يليها من قانون حقوق الطبع والنشر) الذي يحكم عمليات التحايل على ضوابط الوصول وإجراءات الحماية الفنية؛ وقسم "الملاذ الآمن" (القسم 512) الذي يحمي مزوّدي الخدمة الذين يستوفون شروطاً معينة من الأضرار المالية الناجمة عن المخالفات التي يرتكبها مستخدموهم ومستخدماتهم والأطراف الثالثة على الشبكة.

ينبغي على مزوّدي الخدمة، للتمتّع بهذه الحماية، أن يمتثلوا للشروط المنصوص عليها في "القسم 512"، بما في ذلك إجراءات "الإشعار والإزالة" التي تمنح أصحاب حقوق النشر طريقة سهلة وسريعة لتعطيل الوصول إلى المحتوى الذي يزعمون انتهاكه للقانون. ويضمّ "القسم 512" كذلك بعض الأحكام التي تسمح للمستخدمين/ات بالاعتراض على عمليات إزالة المحتوى غير الدقيقة. من دون هذه الحماية، قد يمتنع الكثير من الوسطاء عن تقديم الخدمات، مثل استضافة المحتوى الذي يُنشِئه المستخدمون/ات ونشره، بسبب المخاطر المترتبة على حقوق النشر. ولذلك، كانت "الملاذات الآمنة"، على الرغم من أتّها غير مثالية، ضروريةً لنموّ الإنترنت كمحرّك للابتكار وحرية التعبير. ومع ذلك، في الكثير من الأحيان، يُساء استخدام "قانون الألفية الجديدة لحقوق طبع ونشر المواد الرقمية" (DMCA) لإزالة محتوى قانوني.

القوانين في بلدان أخرى

نظراً إلى عدد المنصّات الكبرى التي تتّخذ من الولايات المتحدة مقرّاً لها، من الضروري فهم التعديل الدستوري الأول في الولايات المتحدة و"القسم 230" من أجل فهم سياسات الإشراف على المحتوى والممارسات التي تتّبعها المنصّات. على سبيل المثال، من أصل 2.79 مليار مستخدم/ة في العالم لمنصّة "فيسبوك" (حتّى شهر شباط/فبراير 2021)، لا يوجد من هؤلاء سوى 228 مليون مستخدم/ة في الولايات المتحدة نفسها.

في المقابل، يخضع العدد الأكبر من مستخدمي/ات الإنترنت في العالم إلى أطر الإشراف على المحتوى تستند إلى قوانين محلية أكثر صرامة، حتّى لو كانت الشركات التي يستخدمون خدماتها تقع في الولايات المتحدة، بحيث تلعب الحكومات ففي عدد من البلدان الأخرى دوراً أكبر وأكثر خطورة في تحديد سياسات الإشراف على المحتوى.

على سبيل المثال، يفرض "قانون إنفاذ القانون في شبكات التواصل الاجتماعية" (NetZDG) المليء بالشوائب، والذي أقرّته ألمانيا في عام 2018، على منصّات التواصل الاجتماعي الكبرى أن تزيل "المحتوى غير القانوني" بسرعة كما هو محدّد في أكثر من 20 قانوناً جنائياً مختلفاً. يجبر هذا القانون الفضفاض المشرفين/ات المحتوى الذين يمتلكون فهماً محدوداً للسياق الذي أنشئ فيه المحتوى، على اتّخاذ القرار بشأنه سريعاً قبل أن تواجه الشركات غرامات باهظة. ويفرض القانون كذلك على منصّات التواصل الاجتماعي التي تضمّ حوالي مليوني مستخدم/ة أن تسمّي ممثّلاً محلياً لكي يكون نقطة تواصل بشأن إنفاذ القانون واستقبال طلبات إزالة المحتوى من السلطات العامة. بالإضافة إلى ذلك، يلزم القانون الألماني هذه الشركات بإزالة أو تقييد المحتوى الذي يظهر على أنّه "غير قانوني" خلال 24 ساعة على تبليغها بشأن المحتوى. وقد تعرّض هذا القانون إلى انتقادات من "هيومن رايتش ووتش" (HRW) كونه ينتهك التزام ألمانيا باحترام حرية التعبير.

حذى عدد من الدول حذو ألمانيا وأقرّت أو اقترحت مشاريع قوانين خاصّة بها، مثل فنزويلا وأستراليا وروسيا والهند وكينيا والفلبين وماليزيا. وفي أندونيسيا، يقترح مشروع قانون مشابه إجبار منصّات التواصل الاجتماعي، والتطبيقات، وغيرها من مزوّدي الخدمات عبر الإنترنت، على الالتزام بالقوانين المحلية المطّبقة على المحتوى والسياسات والممارسات بشأن بيانات المستخدمين/ات. وفي أثيوبيا، يفرض القانونان الصارمان اللذان أقرّا في العام 2020، وهما "إعلان الجرائم الإلكترونية" (Computer Crime Proclamation) و"إعلان منع خطاب الكراهية والمعلومات المضللة وقمعها ( Hate Speech and Disinformation Prevention and Suppression Proclamation)"، على المنصّات الرقمية أن تراقب المحتوى المنشور عليها ويمنحها 24 ساعة فقط لإزالة المعلومات المضللة أو خطاب الكراهية. أمّا جزر موريشيوس، فقد اقترحت في الآونة الأخيرة قانوناً يسمح للحكومة باعتراض حركة مرور البيانات إلى منصّات التواصل الاجتماعي.

واللائحة تطول للأسف؛ فسنغافورة استوحت من "قانون إنفاذ القانون في شبكات التواصل الاجتماعية" (NetZDG) الألماني مشروع قانون باسم "الحماية من الكذب والتلاعب عبر الإنترنت" (Protection from Online Falsehoods and Manipulation Bill) وأقرّته في أيار/مايو من العام 2019، وهو يمكّن الحكومة أن تأمر المنصّات بتصحيح المحتوى أو حجبه، كما يفرض غرامات كبيرة على المنصّة التي تفشل في الامتثال لهذه الطلبات. وتركيا بدورها أقرّت قانوناً في الآونة الأخيرة يتجاوز بكثير القانون الألماني، ليشمل المواقع الإخبارية إلى جانب منصّات التواصل. يفرض هذا القانون غرامات باهظة ويهدّد بحجب الوصول إلى المواقع الإلكترونية، وفوق كلّ ذلك يسمح للحكومة التركية بحذف أيّ محتوى يشتمل على أيّ نوع من المعارضة أو الانتقاد أو المواجهة.

كلّ هذا ليس إلّا غيضاً من فيض المشهد القانوني لإدارة المحتوى في العالم. للمزيد من المعلومات، زوروا قسم "تتبّع إحدى المشاكل" (Track an Issue) في موقعنا.